الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
وَيَتَعَلَّقُ بِهِ قَوَاعِدُ: الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: الْمُجَازَاةُ إِنَّمَا تَنْعَقِدُ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ الْقَاعِدَةُ الْأُولَى لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ): أُولَاهُمَا فِعْلِيَّةٌ، لِتُلَائِمَ الشَّرْطَ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} (طه: 112)، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} (الْأَنْعَامِ: 125)، {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} (الْأَعْرَافِ: 106)، {اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} (الْأَعْرَافِ: 143)، {نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} (الرَّعْدِ: 40)، {يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} (الْبَقَرَةِ: 38). وَثَانِيهُمَا: قَدْ تَكُونُ اسْمِيَّةً، وَقَدْ تَكُونُ فِعْلِيَّةً جَازِمَةً، وَغَيْرَ جَازِمَةٍ، أَوْ ظَرْفِيَّةً، أَوْ شَرْطِيَّةً، كَمَا يُقَالُ: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} (مَرْيَمَ: 60)، {شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (الزُّمَرِ: 22)، {فَأْتِ بِآيَةٍ} (الشُّعَرَاءِ: 154)، {فَسَوْفَ تَرَانِي} (الْأَعْرَافِ: 143)، {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} (يُونُسَ: 70)، {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} (الْبَقَرَةِ: 38). فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ الشَّرْطِ اتَّحَدَتَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، نَحْوُ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} (النِّسَاءِ: 124)، وَقَوْلِهِ- سُبْحَانَهُ-: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (الْأَنْعَامِ: 125)، وَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} (الْأَعْرَافِ: 106) وَقَوْلِهِ: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} (الْأَعْرَافِ: 143)، وَقَوْلِهِ: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} (يُونُسَ: 46) وَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (طه: 123) فَالْأُولَى مِنْ جُمْلَةِ الْمُجَازَاةِ تُسَمَّى شَرْطًا، وَالثَّانِيَةُ تُسَمَّى جَزَاءً أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ. وَيُسَمِّي الْمَنَاطِقَةُ الْأَوَّلَ مُقَدَّمًا وَالثَّانِيَ تَالِيًا. فَإِذَا انْحَلَّ الرِّبَاطُ الْوَاصِلُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْمُجَازَاةِ عَادَ الْكَلَامُ جُمْلَتَيْنِ كَمَا كَانَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيِّ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ تَكُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُنْتَظِمَةُ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ. قُلْنَا: قَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: الْعِبْرَةُ فِي هَذَا بِالتَّالِي؛ إِنَّ كَانَ التَّالِي قَبْلَ الِانْتِظَامِ جَازِمًا كَانَتْ هَذِهِ الشُّرْطِيَّةُ جَازِمَةً- أَعْنِي خَبَرًا مَحْضًا- وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ تُوصَلَ بِهَا الْمَوْصُولَاتِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} (الْحَجِّ: 41). وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازِمًا لَمْ تَكُنْ جَازِمَةً، بَلْ إِنْ كَانَ التَّالِي أَمْرًا، فَهِيَ فِي عِدَادِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الْأَعْرَافِ: 106) وَإِنْ كَانَتْ رَجَاءً فَهِيَ فِي عِدَادِ الرَّجَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} (الْأَعْرَافِ: 143) أَيْ فَهَذَا التَّسْوِيفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِ. فَإِنْ جَعَلْتَ " سَوْفَ " بِمَعْنًى أَمْكَنَ كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا صِرْفًا. فَأَمَّا الْفَاءُ الَّتِي تَلْحَقُ التَّالِي مُعَقِّبَةً فَلِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهَا حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْتَبِطَ التَّالِي بِذَاتِهِ ارْتِبَاطًا؛ وَذَلِكَ إِنْ كَانَ افْتُتِحَ بِغَيْرِ الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 115) وَقَوْلِهِ- سُبْحَانَهُ-: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الْأَنْعَامِ: 160) لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ فَيُجَازَى بِهِ. وَكَذَلِكَ الْحَرْفُ إِنْ كَانَ مُفْتَتَحًا بِالْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الْحُجُرَاتِ: 6) لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يُنَاسِبُ مَعْنَاهُ الشَّرْطَ، فَإِنْ كَانَ مُفْتَتَحًا بِفِعْلٍ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ ارْتَبَطَ بِذَاتِهِ، نَحْوُ قَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (مُحَمَّدٍ: 7) وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} (الْأَنْعَامِ: 70) لِأَنَّ هَذِهِ كَالْجُزْءِ مِنَ الْفِعْلِ، وَتَخَطَّاهَا الْعَامِلُ، وَلَيْسَتْ كَـ " إِنْ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (الْكَهْفِ: 57). فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التَّحْرِيمِ: 4) وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} (الْمَائِدَةِ: 95) قُلْنَا: الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْمُولًا عَلَى الِاسْمِ، كَمَا أَنَّ التَّقْدِيرَ: " فَأَنْتُمَا قَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا " وَ " فَهُوَ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ " يَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أَنَّ " صَغَتْ " لَوْ جُعِلَ نَفْسُهُ الْجَزَاءَ لَلَزِمَ أَنْ يَكْتَسِبَ مِنَ الشَّرْطِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَهَذَا غَيْرُ مُسَوَّغٍ هُنَا، وَلَوْ جَازَ لَجَازَ أَنْ تَقُولَ: أَنْتُمَا إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ صَغَتْ- أَوْ- فَصَغَتْ قُلُوبُكُمَا. لَكِنِ الْمَعْنَى: إِنْ تَتُوبَا فَبَعْدَ صَغْوٍ مِنْ قُلُوبِكُمَا، لِيُتَصَوَّرَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالُ، مَعَ بَقَاءِ دَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى الْمُمْكِنِ، وَأَنَّ " يَنْتَقِمُ " لَوْ جُعِلَ وَحْدَهُ جَزَاءً لَمْ يَدُلْ عَلَى تَكْرَارِ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ الْآنَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ. الثَّانِيَةُ: أَصْلُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أَنْ يَتَوَقَّفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْطَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ جَوَابُهُ بِوُقُوعِهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ، كَقَوْلِكَ: إِنْ زُرْتَنِي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، فَالْإِحْسَانُ إِنَّمَا اسْتُحِقَّ بِالزِّيَارَةِ، وَقَوْلِكَ: إِنْ شَكَرْتَنِي زُرْتُكَ، فَالزِّيَارَةُ إِنَّمَا اسْتُحِقَّتْ بِالشُّكْرِ هَذَا هُوَ الْقَاعِدَةُ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا آيَاتٍ كَرِيمَاتٍ: وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} (الْمَائِدَةِ: 118) وَهُمْ عِبَادُهُ عَذَّبَهُمْ أَوْ رَحِمَهُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الْمَائِدَةِ: 118) وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، غَفَرَ لَهُمْ، أَوْ لَمْ يَغْفِرْ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التَّحْرِيمِ: 4) وَصَغْوُ الْقُلُوبِ هُنَا لِأَمْرٍ قَدْ وَقَعَ، فَلَيْسَ بِمُتَوَقِّفٍ عَلَى ثُبُوتِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ أَجْوِبَةً، وَإِنَّمَا جَاءَتْ عَنِ الْأَجْوِبَةِ الْمَحْذُوفَةِ لِكَوْنِهَا أَسْبَابًا لَهَا. فَقَوْلُهُ: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} (الْمَائِدَةِ: 118) الْجَوَابُ فِي الْحَقِيقَةِ فَتَحَكَّمْ فِيمَنْ يَحِقُّ لَكَ التَّحَكُّمُ فِيهِ، وَذَكَرَ الْعُبُودِيَّةَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْقُدْرَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَغْفِرْ} (الْمَائِدَةِ: 118) فَالْجَوَابُ فَأَنْتَ مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِمْ، بِأَلَّا تُجَازِيَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، فَكَمَالُكَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى شَيْءٍ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْفَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُجَازَاةَ لَا يَجِبُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ مَوْقُوفًا عَلَى الشَّرْطِ أَبَدًا، أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مَوْقُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ أَبَدًا، بِحَيْثُ يُمْكِنُ وُجُودُهُ، وَلَا أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ الشَّرْطِ دَائِمًا إِلَى الْجَزَاءِ نِسْبَةَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبَّبِ، بَلِ الْوَاجِبُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ بِحَيْثُ إِذَا فُرِضَ حَاصِلًا لَزِمَ مَعَ حُصُولِهِ حُصُولُ الْجَزَاءِ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْجَزَاءُ قَدْ يَقَعُ، لَا مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الشَّرْطِ، كَقَوْلِ الطَّبِيبِ: مَنِ اسْتَحَمَّ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ احْتَقَنَتِ الْحَرَارَةُ بَاطِنَ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ احْتِقَانَ الْحَرَارَةِ قَدْ يَكُونُ لَا عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ كَقَوْلِكَ: إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا. وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ كَالْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ، أَوْ مُسْتَحِيلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزُّخْرُفِ: 81). وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ سَبَبًا فِي الْجَزَاءِ وَوَصْلَةً إِلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} (مُحَمَّدٍ: 36) أَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، كَقَوْلِهِ: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النِّسَاءِ: 79) أَوْ كَانَ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ، فَلَا يَقَعُ إِلَّا مُجَرَّدَ الدَّلَالَةِ عَلَى اقْتِرَانِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (الْكَهْفِ: 57) إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ سَبَبًا لِلضَّلَالِ وَمُفْضِيَةً إِلَيْهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ الضَّلَالُ مُفْضِيًا إِلَى الدَّعْوَةِ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} (الْمُمْتَحَنَةِ: 2) وَعَلَى هَذَا مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 140) فَإِنَّ التَّأْوِيلَ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَمَعَ اعْتِبَارِ قَرْحٍ قَدْ مَسَّهُمْ قَبْلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِمُسْتَقْبَلٍ؛ أَيِ الشَّرْطُ وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) فَإِنْ كَانَ مَاضِيَ اللَّفْظِ كَانَ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى، كَقَوْلِكَ: إِنْ مِتُّ عَلَى الْإِسْلَامِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ لِلنُّحَاةِ فِيهِ تَقْدِيرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِعْلَ يُغَيَّرُ لَفْظًا لَا مَعْنًى، فَكَانَ الْأَصْلُ: إِنْ تَمُتْ مُسْلِمًا تَدْخُلِ الْجَنَّةَ، فَغَيَّرَ لَفْظَ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي، تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُحَقَّقِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَغَيُّرُ مَعْنًى، وَإِنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَلَبَ مَعْنَاهُ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَبَقِيَ لَفْظُهُ عَلَى حَالِهِ. وَالْأَوَّلُ أَسْهَلُ، لِأَنَّ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ أَسْهَلُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَعْنَى. وَذَهَبَ الْمِبْرَدُ إِلَى أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ لَفْظُ " كَانَ " بَقِيَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الْمُضِيِّ؛ لِأَنَّ كَانَ جُرِّدَتْ عِنْدَهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَنِ الْمَاضِي فَلَمْ تُغَيِّرْهَا أَدَوَاتُ الشَّرْطِ. وَقَالَ: إِنَّ " كَانَ " مُخَالِفَةٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِسَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} (الْمَائِدَةِ: 116)، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} (يُوسُفَ: 27). وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ، وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَالَ ابْنُ عُصْفُورٍ وَالشَّلَوْبِينِيُّ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ حَرْفَ الشَّرْطِ دَخَلَ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ " إِنْ " أَكُنْ كُنْتُ قُلْتُهُ، أَيْ إِنْ أَكُنْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مَوْصُوفًا بِأَنِّي كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، فَفِعْلُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ مَعَ هَذَا، وَلَيْسَتْ كَانَ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا هِيَ فِعْلُ الشَّرْطِ. قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: وَهَذَا تَكَلُّفٌ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، بَلْ (كُنْتُ) بَعْدَ (إِنْ) مَقْلُوبَةُ الْمَعْنَى إِلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَمَعْنَى (إِنْ كُنْتُ) إِنْ أَكُنْ، فَهَذِهِ الَّتِي بَعْدَهَا هِيَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا الِاسْتِقْبَالُ، لَا أُخْرَى مَحْذُوفَةٌ، وَأَبْطَلُوا مَذْهَبَ الْمُبَرِّدِ بِأَنْ " كَانَ " بَعْدَ أَدَاةِ الشَّرْطِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَدْ جَاءَتْ مُرَادًا بِهَا الِاسْتِقْبَالُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (الْمَائِدَةِ: 6). وَقَدْ نُبِّهَ فِي التَّسْهِيلِ فِي بَابِ الْجَوَازِمِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى، أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَاخْتَارَ فِي كَانَ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ، إِذْ قَالَ: وَلَا يَكُونُ الشَّرْطُ غَيْرُ مُسْتَقْبَلِ الْمَعْنَى بِلَفْظِ " كَانَ " أَوْ غَيْرِهَا إِلَّا مُؤَوَّلًا. وَاسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ " لَوْ " وَ " لَمَّا " الشَّرْطِيَّتَيْنِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ بَعْدَهُمَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَاضِيًا، فَتَعَيَّنَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} (الْأَحْزَابِ: 50) إِلَى {إِنْ وَهَبَتْ} فَوَقَعَ فِيهَا " أَحْلَلْنَا " الْمَنْطُوقُ بِهِ أَوِ الْمُقَدَّرُ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ، جَوَابُ الشَّرْطِ مَعَ كَوْنِ الْإِحْلَالِ قَدِيمًا، فَهُوَ مَاضٍ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ: إِنْ وَهَبَتْ فَقَدْ حَلَّتْ فَجَوَابُ الشَّرْطِ حَقِيقَةُ الْحِلِّ الْمَفْهُومِ مِنَ الْإِحْلَالِ لَا الْإِحْلَالُ نَفْسِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الظَّرْفَ مِنْ قَوْلِكَ: قُمْ غَدًا، لَيْسَ هُوَ لِفِعْلِ الْأَمْرِ، بَلْ لِلْقِيَامِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ. وَقَالَ الْبَيَانِّيُونَ: يَجِيءُ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيَ اللَّفْظِ لِأَسْبَابٍ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ: مِنْهَا؛ إِيهَامُ جَعْلِ غَيْرِ الْحَاصِلِ كَالْحَاصِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (الْإِنْسَانِ: 20). وَمِنْهَا إِظْهَارُ الرَّغْبَةِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ فِي وُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنْ ظَفِرْتَ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فَذَاكَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} (النُّورِ: 33) أَيِ امْتِنَاعًا مِنَ الزِّنَا جِيءَ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَلَمْ يَقُلْ يُرِدْنَ إِظْهَارًا، لِتَوْفِيرِ رِضَا اللَّهِ وَرَغْبَةً فِي إِرَادَتِهِنَّ التَّحْصِينَ. وَمِنْهَا التَّعْرِيضُ، بِأَنْ يُخَاطِبَ وَاحِدًا وَمُرَادُهُ غَيْرُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزُّمَرِ: 65). الرَّابِعَةُ: جَوَابُ الشَّرْطِ أَصْلُهُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ، الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) وَقَدْ يَقَعُ مَاضِيًا لَا عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ فِي الْحَقِيقَةِ، نَحْوُ: إِنْ أَكْرَمْتُكَ فَقَدْ أَكْرَمْتَنِي اكْتِفَاءً بِالْمَوْجُودِ عَنِ الْمَعْدُومِ. وَمَثَلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 140) وَمَسُّ الْقَرْحِ قَدْ وَقَعَ بِهِمْ، وَالْمَعْنَى: إِنْ يُؤْلِمْكُمْ مَا نَزَلْ بِكُمْ فَيُؤْلِمُهُمْ مَا وَقَعَ، فَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الْأَلَمِ الْوَاقِعِ لِجَمِيعِهِمْ فَوَقَعَ الشَّرْطُ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَلَمِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} (الْمَائِدَةِ: 116) فَعَلَى وُقُوعِ الْمَاضِي مَوْقِعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِيهِمَا، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أَيْ: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} (الْمَائِدَةِ: 116) تَكُنْ قَدْ عَلِمْتَهُ، وَهُوَ عُدُولٌ إِلَى الْجَوَابِ إِلَى مَا هُوَ أَبْدَعُ مِنْهُ كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يُوسُفَ: 17) فَالْمَعْنَى- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا، وَلَوْ ظَهَرَتْ لَكَ بَرَاءَتُنَا، بِتَفْضِيلِكَ إِيَّاهُ عَلَيْنَا، وَقَدْ أَتَوْهُ بِدَلَائِلَ كَاذِبَةٍ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ، وَقَرَّعُوهُ بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} (يُوسُفَ: 95)، وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى إِرَادَةِ قَتْلِهِ، ثُمَّ رَمْيُهُمْ لَهُ فِي الْجُبِّ أَكْبَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يُوسُفَ: 17)، عِنْدَكَ. الْخَامِسَةُ: أَدَوَاتُ الشَّرْطِ حُرُوفٌ، الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) وَهِيَ " إِنْ " وَأَسْمَاءٌ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَاهَا، ثُمَّ مِنْهَا مَا لَيْسَ بِظَرْفٍ كَـ: مَنْ، وَمَا، وَأَيُّ، وَمَهْمَا، وَأَسْمَاءٌ هِيَ ظُرُوفٌ: أَيْنَ، وَأَيْنَمَا، وَمَتَى، وَحَيْثُمَا، وَإِذْمَا. وَأَقْوَاهَا دَلَالَةً عَلَى الشَّرْطِ دَلَالَةُ " إِنْ " لِبَسَاطَتِهَا، وَلِهَذَا كَانَتْ أُمَّ الْبَابِ. وَمَا سِوَاهَا فَمُرَكَّبٌ مِنْ مَعْنَى " إِنْ " وَزِيَادَةٍ مَعَهُ، فَمَنْ مَعْنَاهُ كُلٌّ فِي حُكْمِ " إِنْ "، " وَمَا " مَعْنَاهُ كُلُّ شَيْءٍ " إِنْ "، وَ " أَيْنَمَا "، وَ " حَيْثُمَا " يَدُلَّانِ عَلَى الْمَكَانِ وَعَلَى " إِنْ "، وَ " إِذْمَا "، وَ " مَتَى "، يَدُلَّانِ عَلَى الشَّرْطِ وَالزَّمَانِ. وَقَدْ تَدْخُلُ " مَا " عَلَى " إِنْ " وَهِيَ أَبْلَغُ فِي الشَّرْطِ مِنْ " إِنْ "، وَلِذَلِكَ تَلْتَقِي بِالنُّونِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا الْمُضَارِعُ، نَحْوُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} (الْأَنْفَالِ: 58) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} (الْإِسْرَاءِ: 23). وَمِمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ " إِذَا "، وَهِيَ كَـ " إِنْ "، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ " إِنْ " تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَلِهَذَا يَقْبُحُ: إِنِ احْمَرَّ الْبُسْرُ كَانَ كَذَا، وَإِنِ انْتَصَفَ النَّهَارُ آتِكَ، وَتَكُونُ " إِذَا " لِلْجَزْمِ، فَوُقُوعُهُ إِمَّا تَحْقِيقًا، نَحْوُ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كَانَ كَذَا، أَوِ اعْتِبَارًا كَمَا سَنَذْكُرُهُ. قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: وَلِذَلِكَ إِذَا قِيلَ: إِذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأَنْتِ طَالِقٍ، وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ عِنْدَ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا بُدَّ مِنْهُ: وَإِنَّمَا يُتَوَقَّفُ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِمَا. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ إِنْ فِي مَقَامِ الْجَزْمِ لِأَسْبَابٍ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ: 1- مِنْهَا أَنْ تَأْتِيَ عَلَى طَرِيقَةِ وَضْعِ الشُّرْطِيِّ الْمُتَّصِلِ الَّذِي يُوضَعُ شَرْطُهُ تَقْدِيرًا لِتَبْيِينِ مَشْرُوطِهِ تَحْقِيقًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} (الزُّخْرُفِ: 81)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} (الْأَنْبِيَاءِ: 22)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} (الْإِسْرَاءِ: 42). 2- وَمِنْهَا أَنْ تَأْتِيَ عَلَى طَرِيقِ تَبْيِينِ الْحَالِ، عَلَى وَجْهٍ يَأْنَسُ بِهِ الْمُخَاطِبُ، وَإِظْهَارًا لِلتَّنَاصُفِ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} (سَبَأٍ: 50). 3- وَمِنْهَا تَصْوِيرُ أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِمُجَرَّدِ فَرْضِ الشَّرْطِ، كَفَرْضِ الشَّيْءِ الْمُسْتَحِيلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} (فَاطِرٍ: 14) وَالضَّمِيرُ لِلْأَصْنَامِ، وَيُحْتَمَلُ مِنْهُ مَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} (الزُّخْرُفِ: 81). 4- وَمِنْهَا لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ وَالتَّجْهِيلِ فِي ارْتِكَابِ مَدْلُولِ الشَّرْطِ، وَأَنَّهُ وَاجِبُ الِانْتِفَاءِ، حَقِيقٌ أَلَّا يَكُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} (الزُّخْرُفِ: 5) فِيمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ " إِنْ "، فَاسْتُعْمِلَتْ " إِنْ " فِي مَقَامَ الْجَزْمِ، بِكَوْنِهِمْ " مُسْرِفِينَ " لِتَصَوُّرِ أَنَّ الْإِسْرَافَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا، فَأَجْرَاهُ لِذَلِكَ مَجْرَى الْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ. 5- وَمِنْهَا تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ وَتَهْيِيجُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (الْبَقَرَةِ: 172) وَالْمَعْنَى عِبَادَتُكُمْ لِلَّهِ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَكُمْ لَهُ، فَإِنْ كُنْتُمْ مُلْتَزِمِينَ عِبَادَتَهُ فَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَاشْكُرُوهُ، وَهَذَا كَثِيرًا مَا يُورَدُ فِي الْحِجَاجِ وَالْإِلْزَامِ، تَقُولُ: إِنْ كَانَ لِقَاءُ اللَّهِ حَقًّا فَاسْتَعَدَّ لَهُ. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (الْأَنْعَامِ: 118). 6- وَمِنْهَا التَّغْلِيبُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} (الْحَجِّ: 5)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (الْبَقَرَةِ: 23) فَاسْتَعْمَلَ. " إِنْ " مَعَ تَحَقُّقِ الِارْتِيَابِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَابِينَ، فَغَلَّبَ غَيْرَ الْمُرْتَابِينَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُرْتَابِينَ؛ لِأَنَّ صُدُورَ الِارْتِيَابِ مِنْ غَيْرِ الِارْتِيَابِ مَشْكُوكٌ فِي كَوْنِهِ، فَلِذَلِكَ اسْتَعْمَلَ " إِنْ " عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} (الْأَعْرَافِ: 89). وَاعْلَمْ أَنَّ " إِنْ " لِأَجْلِ أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةِ كَانَ جَوَابُهَا مُعَلَّقًا عَلَى مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَأَلَّا يَكُونَ، فَيُخْتَارُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ الْمُحْتَمِلِ لِلْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ، لِيُطَابِقَ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى، فَإِنْ عُدِلَ عَنِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي لَمْ يُعْدَلْ إِلَّا لِنُكْتَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (الْمُمْتَحَنَةِ: 2) فَأَتَى الْجَوَابُ مُضَارِعًا، وَهُوَ " يَكُونُوا " وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ " يَبْسُطُوا " مُضَارِعًا أَيْضًا، وَأَنَّهُ قَدْ عَطَفَ عَلَيْهِ " وَدُّوا " بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَكَانَ قِيَاسَهُ الْمُضَارِعُ؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْجَوَابِ جَوَابٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ وِدَادَتَهُمْ لِكُفْرِهِمْ مِنَ الشَّكِّ فِيهَا مَا يَحْتَمِلُهُ أَنَّهُمْ إِذَا ثَقِفُوهُمْ صَارُوا لَهُمْ أَعْدَاءً، وَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالشَّتْمِ أَتَى فِيهِ بِلَفْظِ الْمَاضِي؛ لِأَنَّ وِدَادَتَهُمْ فِي ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهَا وَكَوْنَهُمْ أَعْدَاءً وَبَاسِطِي الْأَيْدِي وَالْأَلْسُنِ بِالسُّوءِ مَشْكُوكٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْرِضَ مَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُ، فَلَمْ يُتَحَقَّقْ وُقُوعُهُ. وَأَمَّا إِذَا فَلَمَّا كَانَتْ فِي الْمَعَانِي الْمُحَقَّقَةِ غُلِّبَ لَفْظُ الْمَاضِي مَعَهَا لِكَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى الْوُقُوعِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ فِي الْمُضَارِعِ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} (الْأَعْرَافِ: 131) بِلَفْظِ الْمَاضِي مَعَ " إِذَا " فِي جَوَابِ الْحَسَنَةِ حَيْثُ أُرِيدَ مُطْلَقُ الْحَسَنَةِ، لَا نَوْعٌ مِنْهَا، وَلِهَذَا عُرِّفَتْ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، وَلَمْ تُنَكَّرْ كَمَا نُكِّرَ الْمُرَادُ بِهِ نَوْعٌ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (النِّسَاءِ: 78) وَكَمَا نُكِّرَ الْفِعْلُ حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} (النِّسَاءِ: 73) وَبِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مَعَ " إِنْ " فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ، وَتَنْكِيرُهَا بِقَصْدِ النَّوْعِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الرُّومِ: 36) لَفْظُ الْمَاضِي مَعَ " إِذَا " وَالْمُضَارِعُ مَعَ " أَنْ " إِلَّا أَنَّهُ نُكِّرَتِ الرَّحْمَةُ لِيُطَابِقَ مَعْنَى الْإِذَاقَةِ بِقَصْدِ نَوْعٍ مِنْهَا، وَالسَّيِّئَةُ بِقَصْدِ النَّوْعِ أَيْضًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (الْإِسْرَاءِ: 67) أَتَى بِإِذَا لَمَّا كَانَ مَسُّ الضُّرِّ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ مُحَقَّقًا، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} (فُصِّلَتْ: 49) فَإِنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ مَسَّ الشَّرِّ هَاهُنَا، بَلْ أَطْلَقَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} (الْإِسْرَاءِ: 83) فَإِنَّ الْيَأْسَ إِنَّمَا حَصَلَ عِنْدَ تَحَقُّقِ مَسِّ الضُّرِّ لَهُ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِإِذَا أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ أَنْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} (فُصِّلَتْ: 51) فَإِنَّهُ لِقِلَّةِ صَبْرِهِ وَضَعْفِ احْتِمَالِهِ فِي مَوْقِعِ الشَّرِّ أَعْرَضَ، وَالْحَالُ فِي الدُّعَاءِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ كَانَ يَؤُوسًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} (النِّسَاءِ: 176) مَعَ أَنَّ الْهَلَاكَ مُحَقَّقٌ، لَكِنْ جُهِلَ وَقْتُهُ، فَلِذَلِكَ جِيءَ " بِإِنْ ". وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} (آلِ عِمْرَانَ: 144) فَأَتَى بِإِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلشَّكِّ، وَالْمَوْتُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ، وَلَكِنَّ وَقْتَهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَأُورِدَ مَوْرِدَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (الْفَتْحِ: 27) مَعَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ مُحَقَّقَةٌ، فَجَاءَ عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ كَيْفَ يَقُولُونَ، وَهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى جِهَةِ الِاتِّبَاعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الْكَهْفِ: 23، 24)، فَيَقُولُ الرَّجُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ عَلَى مُخْبَرٍ بِهِ مَقْطُوعًا أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْإِبْهَامِ فِي وَقْتِ اللُّحُوقِ مَتَى يَكُونُ.
سَكَتَ الْبَيَانِّيُونَ عَمَّا عَدَا "إِذَا" وَ"إِنْ" وَأَلْحَقَ صَاحِبُ " الْبَسِيطِ " وَابْنُ الْحَاجِبِ " مَتَى " بِإِنْ، قَالَ: لَا تَقُولُ: مَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ؟ مِمَّا عُلِمَ أَنَّهُ كَائِنٌ؛ بَلْ تَقُولُ: مَتَى تَخْرُجْ أَخْرُجْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ " مَتَى " وَ " إِذْ ": إِنَّ مَتَى لِلْوَقْتِ الْمُهِمِّ، وَإِذَا لِلْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّهُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ، وَلِإِبْهَامِ مَتَى جُزِمَ بِهَا دُونَ إِذَا. السَّادِسَةُ: قَدْ يُعَلَّقُ الشَّرْطُ بِفِعْلٍ مُحَالٍ يَسْتَلْزِمُهُ مُحَالٌ آخَرُ، الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) وَتَصْدُقُ الشُّرْطِيَّةُ دُونَ مُفْرَدَيْهَا؛ أَمَّا صِدْقُهَا فَلِاسْتِلْزَامُ الْمُحَالِ، وَأَمَّا كَذِبُ مُفْرَدَيْهَا فَلِاسْتِحَالَتِهِمَا. وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (الزُّخْرُفِ: 81). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 22). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} (الْإِسْرَاءِ: 42) الْآيَةَ. وَفَائِدَةُ الرَّبْطِ بِالشَّرْطِ فِي مِثْلِ هَذَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا بَيَانُ اسْتِلْزَامِ إِحْدَى الْقَضِيَّتَيْنِ لِلْأُخْرَى، وَالثَّانِي أَنَّ اللَّازِمَ مُنْتَفٍ، فَالْمَلْزُومُ كَذَلِكَ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الشَّرْطَ يُعَلَّقُ بِهِ الْمُحَقِّقُ الثُّبُوتِ، وَالْمُمْتَنِعُ الثُّبُوتِ، وَالْمُمْكِنُ الثُّبُوتِ أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ. السَّابِعَةُ: الِاسْتِفْهَامُ إِذَا دَخَلَ عَلَى الشَّرْطِ الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 144) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 34) وَنَظَائِرُهُ: فَالْهَمْزَةُ فِي مَوْضِعِهَا، وَدُخُولُهَا عَلَى أَدَاةِ الشَّرْطِ. وَالْفِعْلُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ لَيْسَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ، وَالْهَمْزَةُ دَاخِلَةٌ عَلَيْهِ تَقْدِيرًا، فَيُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا، بَلِ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: أَأَنْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ أَنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ؟ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِنْكَارُ انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَيَقُولُ يُونُسَ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِنَّمَا هُوَ: أَتَنْقَلِبُونَ إِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: قَالَ يُونُسُ: الْهَمْزَةُ فِي مِثْلِ هَذَا حَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، تَقْدِيرُهُ: أَتَنْقَلِبُونَ إِنَّ مَاتَ مُحَمَّدٌ، لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّنْبِيهُ أَوِ التَّوْبِيخُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْمَشْرُوطِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الْحَقُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ لَوْ قَدَّمْتَ الْجَوَابَ لَمْ يَكُنْ لِلْفَاءِ وَجْهٌ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ: أَتَزُورُنِي فَإِنْ زُرْتُكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 34) وَالثَّانِي: أَنَّ الْهَمْزَةَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، وَإِنَّ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ وَقَدْ وَقَعَا فِي مَوْضِعِهِمَا، وَالْمَعْنَى يَتِمُّ بِدُخُولِ الْهَمْزَةِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. انْتَهَى. وَقَدْ رَدَّ النَّحْوِيُّونَ عَلَى يُونُسَ بِقَوْلِهِ: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 34) لَا يَجُوزُ فِي (فَهُمْ) أَنْ يُنْوَى بِهِ التَّقْدِيمُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ فَإِنْ مِتَّ؟ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِئَلَّا يَبْقَى الشَّرْطُ بِلَا جَوَابٍ؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلُهُ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ الْمُتَّصِلَةَ بِإِنْ تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَلَا يَقُولُونَ: أَنْتَ ظَالِمٌ فَإِنْ فَعَلْتَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا دَخَلَتْ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ. الثَّامِنَةُ: إِذَا تَقَدَّمَ أَدَاةَ الشَّرْطِ جُمْلَةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ جَزَاءً، ثُمَّ ذُكِرَ فِعْلُ الشَّرْطِ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ جَوَابٌ، الْقِسْمُ الثَّامِنُ لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) نَحْوُ: أَقُومُ إِنْ قُمْتَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ؛ فَلَا تَقْدِيرَ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، بَلِ الْمُقَدَّمُ هُوَ الْجَوَابُ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، دَلِيلُ الْجَوَابِ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لَدَخَلَتْ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقَدَّمًا مِنْ تَأْخِيرٍ لَمَا افْتَرَقَ الْمَعْنِيَّانِ، وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ، فَفِي التَّقَدُّمِ بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْخَبَرِ ثُمَّ طَرَأَ التَّوَقُّفُ، وَفِي التَّأْخِيرِ بُنِيَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِهِ عَلَى الشَّرْطِ؛ كَذَا قَالَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ، وَتَابَعَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَغَيْرُهُ. وَنُوزِعَا فِي ذَلِكَ؛ بَلْ مَعَ التَّقْدِيمِ الْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّرْطِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا، فَإِنَّهُ لَمْ يُقِرْ بِالْعَشَرَةِ، ثُمَّ أَنْكَرَ مِنْهَا دِرْهَمًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ الِاسْتِثْنَاءُ، ثُمَّ زَعَمَ ابْنُ السَّرَّاجِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِوُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (الْبَقَرَةِ: 172). وَقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} (الْأَنْعَامِ: 118)، وَقَوْلِهِ: {بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 118). التَّاسِعَةُ: إِذَا دَخَلَ عَلَى أَدَاةِ الشَّرْطِ وَاوُ الْحَالِ الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) لَمْ يُحْتَجْ إِلَى جَوَابٍ، نَحْوُ: أَحْسِنْ إِلَى زَيْدٍ وَإِنْ كَفَرَكَ، وَاشْكُرْهُ وَإِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ؛ أَيْ أَحْسِنْ إِلَيْهِ كَافِرًا لَكَ، وَاشْكُرْهُ مُسِيئًا إِلَيْكَ. فَإِنْ أُجِيبَ الشَّرْطُ كَانَتِ الْوَاوُ عَاطِفَةً؛ لَا لِلْحَالِ، نَحْوُ: أَحْسِنْ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَفَرَكَ، فَلَا تَدَعُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ وَاشْكُرْهُ وَإِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَأَقِمْ عَلَى شُكْرِهِ. وَلَوْ كَانَتِ الْوَاوُ هُنَا لِلْحَالِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ جَوَابٌ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَالَ فَضْلَةٌ، وَأَصْلُ وَضْعِ الْفَضْلَةِ أَنْ تَكُونَ مُفْرَدًا، كَالظَّرْفِ وَالْمَصْدَرِ، وَالْمَفْعُولِ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُجَبِ الشَّرْطُ إِذَا وَقَعَ فِي مَوْقِعِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُجِيبَ لَصَارَ جُمْلَةً؛ وَالْحَالُ إِنَّمَا هِيَ فَضْلَةٌ، فَالْمُفْرِدُ أَوْلَى بِهَا مِنَ الْجُمْلَةِ، وَالشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةً، فَإِنَّهُ يَجْرِي عِنْدَهُمْ مَجْرَى الْآحَادِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى جَوَابِهِ احْتِيَاجَ الْمُبْتَدَأِ إِلَى الْخَبَرِ. الْعَاشِرَةُ: الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَغَايَرَا لَفْظًا، وَقَدْ يَتَّحِدَانِ فَيُحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ، الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) كَقَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} (الْفُرْقَانِ: 70) وَالْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا} (الْفُرْقَانِ: 71) ثُمَّ قَالَ: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (الْفُرْقَانِ: 71) فَقِيلَ عَلَى حَذْفِ الْفِعْلِ: أَيْ مَنْ أَرَادَ التَّوْبَةَ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ مُعْرِضَةٌ لَهُ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَائِلٌ. وَمِثْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} (النَّحْلِ: 98) أَيْ أَرَدْتَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا تَأْكِيدُ التَّوْبَةِ بِالْمَصْدَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} (يُوسُفَ: 75) فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " جَزَاؤُهُ " مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ كَمَا هِيَ خَبَرُهُ عَلَى إِقَامَةِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، وَالْأَصْلُ: " جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رِحْلِهِ، فَهُوَ هُوَ " فَوُضِعَ الْجَزَاءُ مَوْضِعَ هُوَ. وَقَوْلُهُ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} (الْأَعْرَافِ: 178) قَدَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ هِدَايَتَهُ. فَلَا يَتَّحِدُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (الْمَائِدَةِ: 67) وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 192) وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} (آلِ عِمْرَانَ: 185) وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} (مُحَمَّدٍ: 38). وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ تَفْخِيمُ الْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْكَامِلُ الْبَالِغُ النِّهَايَةِ؛ يَعْنِي: مَنْ يَبْخَلُ فِي أَدَاءِ رُبُعِ الْعُشْرِ، فَقَدْ بَالَغَ فِي الْبُخْلِ، وَكَانَ هُوَ الْبَخِيلُ فِي الْحَقِيقَةِ. الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ: فِي اعْتِرَاضِ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ، الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ لِلشَّرْطِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) وَقَدْ عَدُّوا مِنْ ذَلِكَ آيَاتٍ شَرِيفَةً، بَعْضُهَا مُسْتَقِيمٌ وَبَعْضُهَا بِخِلَافِهِ. الْآيَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} (الْوَاقِعَةِ: الْآيَةِ 88، 89) الْآيَةَ، قَالَ الْفَارِسِيُّ: قَدِ اجْتَمَعَ هُنَا شَرْطَانِ، وَجَوَابٌ وَاحِدٌ، فَلَيْسَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِأَمَّا، أَوْ لِإِنْ دُونَ أَمَّا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَهُمَا؛ لِأَنَّا لَمْ نَرَ شَرْطَيْنِ لَهُمَا جَوَابٌ وَاحِدٌ؛ وَلَوْ كَانَ هَذَا لَجَازَ شَرْطٌ وَاحِدٌ لَهُ جَوَابَانِ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا؛ لِأَنَّ دُونَ " أَمَّا " لِأَنَّ " أَمَّا " لَمْ تُسْتَعْمَلْ بِغَيْرِ جَوَابٍ، فَجُعِلَ جَوَابًا لِأَمَّا، فَتُجْعَلُ " أَمَّا " وَمَا بَعْدَهَا جَوَابًا لِإِنْ. وَتَابَعَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي كَوْنِ الْجَوَابِ لِأَمَّا. وَقَدْ سَبَقَهُمَا إِلَيْهِ إِمَامُ الصِّنَاعَةِ سِيبَوَيْهِ، وَنَازَعَ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي عَدِّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذَا، قَالَ: وَلَيْسَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يُقْرَنَ الثَّانِي بِفَاءِ الْجَوَابِ لَفْظًا؛ نَحْوُ: إِنْ تَكَلَّمَ زَيْدٌ، فَإِنْ أَجَادَ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِي، وَجَوَابَهُ جَوَابُ الْأَوَّلِ. أَوْ يُقْرَنَ بِفَاءِ الْجَوَابِ تَقْدِيرًا كَهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ النُّحَاةِ: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَوَفَّى مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَجَزَاؤُهُ رَوْحٌ، فَحُذِفَ مَهْمَا وَجُمْلَةُ شَرْطِهَا، وَأُنِيبَ عَنْهَا أَمَّا، فَصَارَ أَمَّا، فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا مِنْ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَلِي أَدَاةَ الشَّرْطِ بِغَيْرِ فَاصِلٍ. وَثَانِيهُمَا: أَنَّ الْفَاءَ فِي الْأَصْلِ لِلْعَطْفِ؛ فَحَقُّهَا أَنْ تَقَعَ بَيْنَ سَبَبَيْنِ، وَهُمَا الْمُتَعَاطِفَانِ فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا مِنْ بَابِ الْعَطْفِ، حَفَظُوا عَلَيْهَا الْمَعْنَى الْآخَرَ، وَهُوَ التَّوَسُّطُ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ شَيْءٌ مِمَّا فِي حَيِّزِهَا عَلَيْهَا إِصْلَاحًا لِلَّفْظِ، فَقُدِّمَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّهَا كَالْجَزَاءِ الْوَاحِدِ، كَمَا قُدِّمَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضُّحَى: 9) فَصَارَ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ} (الْوَاقِعَةِ: 88، 89) فَحُذِفَتِ الْفَاءُ الَّتِي فِي جَوَابِ " إِنْ " لِئَلَّا يَلْتَقِيَ فَاءَانِ. فَتَلَخَّصَ أَنَّ جَوَابَ أَمَّا لَيْسَ مَحْذُوفًا، بَلْ مُقَدَّمًا بَعْضُهُ عَلَى الْفَاءِ، فَلَا اعْتِرَاضَ. الْآيَةُ الثَّانِيَةُ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (هُودٍ: 34) وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ هَذَا لَوْ كَانَ {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} (هُودٍ: 34) مُؤَخَّرًا بَعْدَ الشَّرْطَيْنِ: أَوْ لَازِمًا أَنْ يُقَدَّرَ كَذَلِكَ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} (هُودٍ: 34) جُمْلَةٌ تَامَّةٌ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَمَنْ شَرْطٌ مُؤَخَّرٌ وَجَزَاءٌ مُقَدَّمٌ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فَالْمُقَدَّمُ دَلِيلُ الْجَزَاءِ، وَالْمَدْلُولُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ فَيُقَدَّرُ بَعْدَ شَرْطِهِ، فَلَمْ يَقَعِ الشَّرْطُ الثَّانِي مُعْتَرِضًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعْتَرِضِ مَا اعْتَرَضَ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ لَا حَذْفَ وَالْجَوَابُ مُقَدَّمٌ، وَعَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ الْحَذْفُ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ. وَهُنَا فَائِدَةٌ، فِي تَقَدُّمِ الْجَزَاءِ أَوْ دَلِيلِهِ عَلَى الشَّرْطَيْنِ (أَقْسَامُ مَعْنَى الْكَلَامِ) وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ عَنْ " إِنْ نَصَحْتُ " إِلَى: {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ}؟ وَكَأَنَّهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَدَبٌ مَعَ اللَّهِ- تَعَالَى، حَيْثُ أَرَادَ الْإِغْوَاءَ. وَقَدْ أَحْسَنَ الزَّمَحْشَرِيُّ فَلَمْ يَأْتِ بِلَفْظِ الِاعْتِرَاضِ فِي الْآيَةِ؛ بَلْ سَمَّاهُ مُرَادِفًا؛ هُوَ صَحِيحٌ، وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} جَزَاؤُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي}. وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْصَحَ لَكُمْ مُرَادًا ذَلِكَ مِنْكُمْ. لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، وَهُوَ يَجْعَلُهُ مِنْ بَابِ الِاعْتِرَاضِ، وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَا. الْآيَةُ الثَّالِثَةُ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (الْأَحْزَابِ: 50) الْآيَةَ، وَهِيَ كَالَّتِي قَبْلَهَا، لِتَقَدُّمِ الْجَزَاءِ أَوْ دَلِيلِهِ عَلَى الشَّرْطَيْنِ، فَالِاحْتِمَالُ فِيهَا كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَرْطٌ فِي الْإِحْلَالِ هِبْتُهَا نَفْسَهَا، وَفِي الْهِبَةِ إِرَادَةُ الِاسْتِنْكَاحِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَحْلَلْنَاهَا لَكَ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَهَا؛ لِأَنَّ إِرَادَتَهُ هِيَ قَبُولُ الْهِبَةِ، وَمَا بِهِ تَمَّ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ مُقَيِّدٌ لِلْأَوَّلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا، إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ، أَحْلَلْنَاهَا، فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْأَوَّلِ، وَيُقَدَّرُ جَوَابُ الثَّانِي مَحْذُوفًا. الْآيَةُ الرَّابِعَةُ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (يُونُسَ: 84). وَغَلِطَ مَنْ جَعَلَهَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ اقْتَرَنَ بِجَوَابِهِ، ثُمَّ أَتَى بِالثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا ذُكِرَ جَوَابُ الثَّانِي تَالِيًا لَهُ، فَأَيُّ اعْتِرَاضٍ هُنَا؟! لِهَذَا قَالَ الْمُجَوِّزُونَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ لِلْأَوَّلِ، وَجَوَابَ الثَّانِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ وَجَوَابِهِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ: إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَإِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، فَحُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ السَّابِقِ عَلَيْهِ. الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} (مُحَمَّدٍ: 36 وَ 37) وَكَلَامُ ابْنِ مَالِكٍ يَقْتَضِي أَنَّهَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ عُطِفَ فِعْلُ الشَّرْطِ عَلَى فِعْلٍ آخَرَ. الْآيَةُ السَّادِسَةُ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} (الْفَتْحِ: 25) إِلَى قَوْلِهِ: (لَعَذَّبْنَا) وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْعُمْدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَالشَّرْطَانِ وَهُمَا (لَوْلَا) وَ (لَوْ) قَدِ اعْتَرَضَا، وَلَيْسَ مَعَهُمَا إِلَّا جَوَابٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُمَا، وَهُوَ (لَعَذَّبْنَا). الْآيَةُ السَّابِعَةُ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} (الْبَقَرَةِ: 180)، وَهَذِهِ تَأْتِي عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (الْوَصِيَّةُ) عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاءِ، أَيْ فَالْوَصِيَّةُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، فَأَمَّا إِذَا رُفِعَتِ (الْوَصِيَّةُ) بِـ (كُتِبَ) فَهِيَ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ فِي حَذْفِ الْجَوَابَيْنِ.
ذَكَرَ بَعْضُهُمْ ضَابِطًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: إِذَا دَخَلَ الشَّرْطُ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي بِالْفَاءِ فَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ جَوَابُهُ، وَهُوَ وَجَوَابُهُ جَوَابُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 38). وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْفَاءِ؛ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ عَنِ الْأَوَّلِ، كَانَ مُقَدَّرًا بِالْفَاءِ وَتَكُونُ الْفَاءُ جَوَابَ الْأَوَّلِ، وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ جَوَابَ الثَّانِي، نَحْوُ: إِنْ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ إِنْ صَلَّيْتَ فِيهِ فَلَكَ أَجْرٌ. تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ صَلَّيْتَ فِيهِ. فَحُذِفَتِ الْفَاءُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَهُوَ فِي نِيَّةِ التَّقْدِيمِ وَمَا قَبْلَهُ جَوَابُهُ، وَالْفَاءُ مُقَدَّرَةٌ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} (هُودٍ: 34) تَقْدِيرُهُ: إِنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، فَإِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ لَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ، وَالْآخَرُ مُتَأَخِّرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ} (الْأَحْزَابِ: 50) كَانَ الْحُكْمُ رَاجِعًا إِلَى التَّقْدِيرِ وَالنِّيَّةِ، فَأَيُّهُمَا قَدَّرْتَهُ الشَّرْطَ كَانَ الْآخَرُ جَوَابًا لَهُ. وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا بِالْفَاءِ كَانَ الْمُتَقَدِّمَ فِي اللَّفْظِ أَوِ الْمُتَأَخِّرَ، فَإِنْ قَدَّرْنَا الْهِبَةَ شَرْطًا كَانَتِ الْإِرَادَةُ جَوَابًا، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ فَإِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا. وَإِنْ قَدَّرْنَا الْإِرَادَةَ شَرْطًا كَانَتِ الْهِبَةُ جَزَاءً، وَكَانَ التَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا، فَإِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، فَجَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَهِيَ حَلَالٌ لَكَ. وَقِسْ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي كِتَابِ " الْقَدِّ " يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الشَّرْطُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ جُمْلَةٌ مَضْمُومَةٌ إِلَى أُخْرَى، وَقَدْ جَرَتِ الْجُمْلَتَانِ مَجْرَى الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَمِنْ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الشَّرْطُ يَمِينًا أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ لِمَا بَعْدَهُ.
وَهُمَا جُمْلَتَانِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ؛ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الْأَسَالِيبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ التَّأْكِيدِ. وَالْقَسَمُ لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْإِنْشَاءُ وَالِالْتِزَامُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ تَرْكِهِ، وَلَيْسَ بِإِخْبَارٍ عَنْ شَيْءٍ وَقَعَ أَوْ لَا يَقَعُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ الْمُضِيَّ أَوِ الِاسْتِقْبَالَ، وَفَائِدَتُهُ تَحَقُّقُ الْجَوَابِ عِنْدَ السَّامِعِ، وَتَأَكُّدُهُ لِيَزُولَ عَنْهُ التَّرَدُّدُ فِيهِ.
حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ كَانَ بِغَيْرِ الْحَرْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (الْبَقَرَةِ: 43)، {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} (النَّمْلِ: 18)، {اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} (النِّسَاءِ: 66) {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} (الْأَنْعَامِ: 141). وَجَاءَ بِالْحَرْفِ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ عَلَى قِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ: (فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا) (يُونُسَ: 58) وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ إِلَى الْخِطَابِ؛ فَكَأَنَّهُ لَا غَائِبٌ وَلَا حَاضِرٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا) (يُونُسَ: 58) فِيهِ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَخِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ النَّبِيِّ لِلْمُؤْمِنِينَ كَخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ؛ فَكَأَنَّهُمَا اتَّحَدَا فِي الْحُكْمِ وَوُجُودِ الِاسْتِمَاعِ وَالِاتِّبَاعِ، فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ كَأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ فِي الْمَعْنَى، فَأَتَى بِاللَّامِ كَأَنَّهُ يَأْمُرُ قَوْمًا غُيَّبًا، وَبِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ كَأَنَّهُ يَأْمُرُ حُضُورًا وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (يُونُسَ: 57) الْآيَةَ، فَصَارَ الْمُؤْمِنُونَ مُخَاطَبِينَ، ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ} (يُونُسَ: 58) يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُمْ، فَصَارُوا مُخَاطَبِينَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَنَظِيرُهُ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ} (يُونُسَ: 22) إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ فِي كَلِمَتَيْنِ وَحَالَتَيْنِ؛ وَهَذَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، [وَحَالَةٍ وَاحِدَةٍ]. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الْحَشْرِ: 18). وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (الزُّخْرُفِ: 77).
هُوَ شَطْرُ الْكَلَامِ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا إِثْبَاتٌ أَوْ نَفْيٌ، وَفِيهِ قَوَاعِدُ: الْأُولَى: فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَحْدِ، قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: إِنْ كَانَ النَّافِي صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ، سُمِّيَ كَلَامُهُ نَفْيًا، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَ مَا نَفَاهُ كَانَ جَحْدًا؛ فَالنَّفْيُ أَعَمُّ، لِأَنَّ كُلَّ جَحْدٍ نَفْيٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْجَحْدُ نَفْيًا؛ لِأَنَّ النَّفْيَ أَعَمُّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى النَّفْيُ جَحْدًا. فَمِنَ النَّفْيِ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} (الْأَحْزَابِ: 40) وَمِنَ الْجَحْدِ نَفْيُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لِآيَاتِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النَّمْلِ: 13، 14) أَيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ إِخْبَارُ اللَّهِ عَمَّنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} (الْمَائِدَةِ: 19) فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (الْأَنْعَامِ: 24). وَقَوْلُهُ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} (التَّوْبَةِ: 74) فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} (التَّوْبَةِ: 74). قَالَ: وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَالْأَصْلُ مَا ذَكَرْتُهُ. الثَّانِيَةُ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النَّفْيِ عَنِ الشَّيْءِ، صِحَّةَ اتِّصَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الْبَقَرَةِ: 144)، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مَرْيَمَ: 64)، {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (الْبَقَرَةِ: 255)، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} (الْأَنْعَامِ: 14) وَنَظَائِرُهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ عَقْلًا، وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَ إِمْكَانِهِ، فَنَفْيُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِمْكَانَهُ. الثَّالِثَةُ: الْمَنْفِيُّ مَا وَلِيَ حَرْفَ النَّفْيِ، فَإِذَا قُلْتَ: مَا ضَرَبْتُ زَيْدًا، كُنْتَ نَافِيًا لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ ضَرْبُكَ إِيَّاهُ، وَإِذَا قُلْتَ: مَا أَنَا ضَرْبَتُهُ، كُنْتَ نَافِيًا لِفَاعِلِيَّتِكَ لِلضَّرْبِ. فَإِنْ قُلْتَ: الصُّورَتَانِ دَلَّتَا عَلَى نَفْيِ الضَّرْبِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأُولَى نَفَتْ ضَرْبًا خَاصًّا، وَهُوَ ضَرْبُكَ إِيَّاهُ، وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى وُقُوعِ ضَرْبِ غَيْرِكَ وَلَا عَدَمِهِ، إِذْ نَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ وَلَا ثُبُوتَهُ، وَالثَّانِيَةُ: نَفَتْ كَوْنَكَ ضَرَبْتَهُ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ غَيْرَكَ ضَرَبَهُ بِالْمَفْهُومِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ ضَرْبِكِ لَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالثَّانِيَةَ دَلَّتْ عَلَى نَفْيِهِ بِوَاسِطَةٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (الْمَائِدَةِ: 117). الرَّابِعَةُ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ عَامًّا وَنَفَيْتَهُ، فَإِنْ تَقَدَّمَ حَرْفُ النَّفْيِ أَدَاةَ الْعُمُومِ، كَانَ نَفْيًا لِلْعُمُومِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْإِثْبَاتَ الْخَاصَّ، فَإِذَا قُلْتَ: لَمْ أَفْعَلْ كُلَّ ذَا، بَلْ بَعْضَهُ " اسْتَقَامَ، وَإِنْ تَقَدَّمَ صِيغَةُ الْعُمُومِ عَلَى النَّفْيِ، فَقُلْتَ: كُلُّ ذَا لَمْ أَفْعَلْهُ كَانَ النَّفْيُ عَامًّا، وَيُنَاقِضُهُ الْإِثْبَاتُ الْخَاصُّ، وَحَكَى الْإِمَامُ فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ، عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَّ: نَفْيَ الْعُمُومِ يَقْتَضِي خُصُوصَ الْإِثْبَاتِ، فَقَوْلُهُ: لَمْ أَفْعَلْ كُلَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَهُ. قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ نَفْيَ الْعُمُومِ كَمَا لَا يَقْتَضِي عُمُومَ النَّفْيِ لَا يَقْتَضِي خُصُوصَ الْإِثْبَاتِ. الْخَامِسَةُ: أَدَوَاتُهُ كَثِيرَةٌ؛ قَالَ الْخُوَيِّيُّ: وَأَصْلُهَا لَا وَمَا؛ لِأَنَّ النَّفْيَ إِمَّا فِي الْمَاضِي وَإِمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ وَالِاسْتِقْبَالُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاضِي أَبَدًا، وَ " لَا " أَخَفُّ مِنْ " مَا " فَوَضَعُوا الْأَخَفَّ لِلْأَكْثَرِ. ثُمَّ إِنَّ النَّفْيَ فِي الْمَاضِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا وَاحِدًا مُسْتَمِرًّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا فِيهِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَكَذَلِكَ النَّفْيُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَصَارَ النَّفْيُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَاخْتَارُوا لَهُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ: " مَا "، " لَمْ "، " لَنْ "، " لَا ". وَأَمَّا " إِنْ " وَ " لَمَّا " فَلَيْسَا بِأَصْلِيَّيْنِ. فَمَا، وَلَا، فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مُتَقَابِلَانِ، وَلَمْ، وَلَنْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مُتَقَابِلَانِ، وَ " لَمْ " كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مَنْ لَا، وَمَا؛ لِأَنَّ " لَمْ " نَفْيٌ لِلِاسْتِقْبَالِ لَفْظًا، فَأَخَذَ اللَّامَ مِنْ " لَا " الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْأَمْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمِيمَ مِنْ مَا الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْأَمْرِ فِي الْمَاضِي، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ فِي " لَمِ " الْمُسْتَقْبَلَ وَالْمَاضِيَ، وَقَدَّمَ اللَّامَ عَلَى الْمِيمِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ " لَا " هُوَ أَصْلُ النَّفْيِ، وَلِهَذَا يُنْفَى بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، فَيُقَالُ: لَمْ يَفْعَلْ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، وَلَنْ أَضْرِبَ زَيْدًا وَلَا عَمْرًا. أَمَّا " لَمَّا " فَتَرْكِيبٌ بَعْدَ تَرْكِيبٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ وَمَا لِتَوْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ فِي الْمَاضِي وَتُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ أَيْضًا، وَلِهَذَا تُفِيدُ لَمَّا الِاسْتِمْرَارَ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، إِذَا قُلْتَ: نَدِمَ زِيدٌ وَلَمْ يَنْفَعْهُ النَّدَمُ، أَيْ حَالَ النَّدَمِ لَمْ يَنْفَعْهُ، وَإِذَا قُلْتَ: نَدِمَ زَيْدٌ وَلَمَّا يَنْفَعْهُ النَّدَمُ؛ أَيْ حَالَ النَّدَمِ، وَاسْتَمَرَّ عَدَمُ نَفْعِهِ. قُلْتُ: وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِذَا نُفِيَ بِهَا الْفِعْلُ اخْتَصَّتْ بِنَفْيِ الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُتَّسَعَ فِيهَا فَيُنْفَى بِهَا الْحَاضِرُ، نَحْوُ: مَا قَامَ وَمَا قَعَدَ. قَالَ الْخُوَيِّيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّفْيِ بِلَمْ وَمَا، أَنَّ النَّفْيَ بِمَا، كَقَوْلِكَ: مَا قَامَ زَيْدٌ؛ مَعْنَاهُ أَنَّ وَقْتَ الْإِخْبَارِ هَذَا الْوَقْتُ؛ وَهُوَ إِلَى الْآنِ مَا فَعَلَ، فَيَكُونُ النَّفْيُ فِي الْمَاضِي، وَأَنَّ النَّفْيَ بِـ " لَمْ " كَقَوْلِكَ: لَمْ يَقُمْ تَجْعَلُ الْمُخْبِرَ نَفْسَهُ بِالْعَرْضِ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَلِأَنَّهُ يَقُولُ فِي كُلِّ زَمَانٍ فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ: أَنَا أُخْبِرُكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ. وَعَلَى هَذَا فَتَأَمَّلِ السِّرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} (الْإِسْرَاءِ: 111) وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} (الْمُؤْمِنُونَ: 91) لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي مَقَامِ طَلَبِ الذِّكْرِ وَالتَّشْرِيفِ بِهِ لِلثَّوَابِ، وَالثَّانِيَ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ إِلَّا بِالنَّفْيِ عَنْ جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (مَرْيَمَ: 28) وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (مَرْيَمَ: 20) فَإِنَّ مَرْيَمَ كَأَنَّهَا قَالَتْ: إِنِّي تَفَكَّرْتُ فِي أَزْمِنَةِ وُجُودِي وَمَثَّلْتُهَا فِي عَيْنِي لَمْ أَكُ بَغِيًّا، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّنْزِيهِ؛ فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهَا تَنْفِي نَفْيًا كُلِّيًّا مَعَ أَنَّهَا نَسِيَتْ بَعْضَ أَزْمِنَةِ وُجُودِهَا، وَأَمَّا هُمْ لَمَّا قَالُوا: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} مَا كَانَ يُمَكِّنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: نَحْنُ تَصَوَّرْنَا كُلَّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِ أُمِّكِ، وَنَنْفِي عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَوْنَهَا بَغِيًّا؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُلَازِمُ غَيْرَهُ، فَيَعْلَمَ كُلَّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا قَالُوا لَهَا: إِنَّ أُمَّكِ اشْتَهَرَتْ عِنْدَ الْكُلِّ، حَتَّى حَكَمُوا عَلَيْهَا حُكْمًا وَاحِدًا عَامًّا، أَنَّهَا مَا بَغَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَزْمِنَةِ وُجُودِهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الْأَنْعَامِ: 131) وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} (الْقَصَصِ: 59) فَإِنَّهُ- سُبْحَانَهُ- لَمَّا قَالَ: (بِظُلْمٍ) كَانَ سَبَبُ حُسْنِ الْهَلَاكِ قَائِمًا، وَأَمَّا الظُّلْمُ فَكَانَ يُتَوَقَّعُ فِي كُلِّ زَمَنِ الْهَلَاكِ؛ سَوَاءٌ كَانُوا غَافِلِينَ أَمْ لَا؛ لَكِنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ يُمْسِكُ عَنْهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَافَقَتْهُ غَفْلَتُهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} وَإِنْ جَدَّ الظُّلْمُ لَكِنْ لَمْ يَبْقَ سَبَبًا مَعَ الْإِصْلَاحِ، فَبَقِيَ النَّفْيُ الْعَامُّ بِعَدَمِ تَحْقِيقِ الْمُقْتَضَى فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (الْقَصَصِ: 59) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُذْكَرِ الظُّلْمُ لَمْ يُتَوَقَّعِ الْهَلَاكُ، فَلَمْ يَبْقَ مُتَكَرِّرًا فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الْأَنْفَالِ: 53)، وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} (الْأَنْفَالِ: 33) ذُكِرَ عِنْدَ ذِكْرِ النِّعْمَةِ لَمْ يَكُنْ إِشَارَةً إِلَى الْحُكْمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} (الْأَنْفَالِ: 33) نَفْيًا وَاحِدًا عَامًّا عِنْدَ ذِكْرِ الْعَذَابِ؛ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الْعَذَابِ؛ وَيَتَكَرَّرَ ذِكْرُ النِّعْمَةِ لَا لِلْمِنَّةِ بَلْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الْأَحْزَابِ: 4) وَقَالَ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الْحَجِّ: 78)، {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (الْمَائِدَةِ: 103) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} (مَرْيَمَ: 7) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (مَرْيَمَ: 32) وَقَالَ تَعَالَى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} (الْكَهْفِ: 90) فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِ "مَا" حَصَّلَ الْمَذْكُورُ أُمُورًا لَا يُتَوَقَّعُ تَجَدُّدُهَا، وَفِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ لَمْ يَحْصُلْ تَوَقُّعُ تَجَدُّدِ الْمَذْكُورِ. فَاسْتَمْسِكْ بِمَا ذَكَرْنَا وَاجْعَلْهُ أَصْلًا؛ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ الرَّبَّانِيَّةِ.
|